القائمة الرئيسية

السبت، 22 فبراير 2020

(العروس المسحورة) د. أميمة خفاجى للناقد الأديب يوسف الشارونى

الأديب الناقد يوســـــف الشاروني

قراءة في رواية البعـــث

لأميمـة خفاجي

(الطبعة الأولى : البعث  2004،

 الطبعة الثانية العروس المسحورة 2007  ،

 تم تبسيطها للناشيئن باسم :

 الطفلة المستحيلة 2008 دار المعارف سلسلة أولادنا)

     بعد أربعة عشر عاماً من صدور روايتها الأولى في الخيال العلمي " جريمة عالم " (1990) أصدرت د. أميمة خفاجي روايتها الثانية بعنوان " البعث " (2004) واحتفظت بأسماء كثير من شخصيات روايتها الأولي لشخصيات روايتها الثانية مع اختلاف أدوارهم ، فالزوجان أشجان وأدهم في " جريمة عالم " يصبحان حبيبين في "البعث"، بينما إش إش اسم أحط إنسان وأرقى حيوان في "جريمة عالم " يصبح إسماً ثانيا لأشجان في "البعث" ، أما الوالدان في "البعث" فهما "ضحية" و "سرحان" ، فضلا عن أسماء شخصيات جديدة في روايتنا "البعث"، مثل طبيب الاستنساخ الإيطالي " انتينوري" والأم الإيطالية الحاضنة ذات الاسم المصري "دنيا".
    ولئن كان محرر الرواية الأولى هو استنساخ كائن مهجن من تلاقح امرأة بشمبانزي والذي ينتهي بهروبه - - أو هروبها فهي أنثي – من مجتمع الناس "تسير وتجري وتقفز بعيدا عن البشر بحثا عن عالم آخر " ( جريمة عالم ، موسكو ، 1990 ، صفحات 260 – 261) فإن محور روايتنا "البعث" هو تلك المفارقة : امرأة لرغبتها المستقرة في الأمومة ألقت بابنتها في أتون مستعر لتلقي حتفها ( البعث ، طباعة الألوان المتحدة ، 2004 ، ص 184). وكأنما نحن بإزاء مأساة يونانية تعلن أن الأم ضحية "تحدت القدر ، الموت ، فماذا جنت الآن سوى مأساة متحركة يعاني من قسوتها آخرون لا شأن لهم بها على الإطلاق" (ص 185) بل إن المؤلفة تدين تلك المحاولة حين تستطرد معلنة " بل لا شأن لهم بتلك الأمومة التي لا رحمة فيها ولا عطاء" وتعلن صراحة تحيزها ضد الرغبة الأنثوية في الحصول على الطفل عن طريق الاستنساخ حين تصفها بأنها "أنانية " ( ص 185). وهو نفس موقفها في روايتها السابقة . وكأنما الهدف الروائي في كلتا الروايتين هو إدانة استخدام الهندسة الوراثية في محاولات إنجاب الأطفال – والمؤلفة على ما أعلم متخصصة في الهندسة الوراثية ـ وكأنها تعلن أن ليس كل ما يباح في مجال الزراعة والحيوان يباح في مجال الإنسان .
* * * * * *
    تبدأ رواية "البعث" من نهايتها ، وبطلتنا أشجان أو إش إش أو أيفا المصرية ـ كما أطلقوا عليها في إيطاليا ـ يهربها صديقها وحبيبها ورفيق دراستها أدهم من المستشفي وهي ـ لضخامتها المفرطة ـ تحمله على كتفها كأنه طفل صغير . "ورغم ضآلة حجمه وصغره مقارنة بها إلا أنه كان كبيرا شامخا وهو يحقق خطته في تهريبها " ( المرجع السابق ، ص 4) ونفهم مما يدور من حديث بين العاشقين أن أشجان كانت قد ملأت أوراقا – وهي في محبسها – تتضمن رسالة إلى أدهم بها قصة حياتها وحياة امرأة " تملكتها عزيزة الأمومة واجتاحتها فقضت على حياتها وحياتي " (ص 7) . بذلك تدين أميمة خفاجي إحدى شخصياتها ، وكأنها كانت تعلم مقدما تلك النهاية ، بينما الواقع الروائي يعلن أن المؤلفة هي التي وجهت الأحداث إلى تلك النهاية كي تعلن عن طريق روايتها رأيها في استنساخ البشر وتدنيه . أما أشجان فتعلن إيمانها بقانون التوازن حين تذكر أن عذابها إما أن يكون عقابا على ما اقترفته من كثير الآثام قبل أن تولد ، أو لأنها ستنعم بكثير من السعادة بعد أن تموت ( ص 8).
    بعد هذه النهاية غير المكتملة التي تبدأ بها روايتنا نرتد مع أشجان وهي تحتفل بعيد ميلادها الرابع عشر حيث ندرك أن لها والدتين : شكلية اسمها ضحية وأخرى واقعية حميمية اسمها دنيا ، الإيطالية الجنسية المصرية الاسم وان كانت هذه الجنسية تختفي تماما فيما تلا ذلك من أحداث سوى وصفها بأنها شقراء (ص 17) وأنها تتعلم العربية . وبين الوالدتين معركة على تملك أشجان ، وإن كانت أشجان قد حسمتها لصالح دنيا ، وطبقا لاعترافها " فأنا لي أمَّان ، كبيرة وأخرى صغيرة أشعر أنها تحبنى أكثر من أمي ، ولا أخفيك سرا فأنا أحبها أكثر من أمي لقربها مني ، وحبها ، وفهمها لي (ص 24). وكانت أشجان تتساءل في دهشة " إذا كانت أمي حقا تكره دنيا فلماذا تتركها تعيش معهم ؟ ما الذي يجبرها على ذلك " (ص 38 – 39).
    وبدأنا نقرأ في روايات القرن الواحد والعشرين مصطلحات ما توصلت إليه البشرية من ابتكارات . فالأم ضحية ترسل عبر الانترنت ( وتحرص د. أميمة أن تكتبها بالحروق اللاتينية إلى جانب كتابتها بالعربية ) إلى الطبيب أنتينوري الذي قام بعملية الاستنساخ في إيطاليا بكل تفاصيل تطور حياة أشجان وكيف تعيش (ص 49). وقد أغراه نجاحه باستئناف قضيته لأخذ تعويض عن الحكم الذي صدر ضده لما يقوم به من أبحاث وعمليات ثبت عن نجاحها أنها ليست ضد القيم والأخلاق ، بينما يلجأ إليه العديدون                               سرا بحثا إما عن خلود نفسه باستنساخه أو إنجابه طفلا يرثه ( ص 49). وشرحت ضحية لأشجان أن سبب وجود دنيا معهم هو دورها كمرضعة وحيدة " عثرنا عليها ، واختيارها كان نتيجة صحة التحاليل والفحوص التي أجريت عليها " (ص 53) . " وطلبنا منها الإقامة معنا ، فرحبت حيث ليس لها أسرة ولا معين ولا رفيق " ( ص 54) . وتشككت أشجان في مدى علاقة دنيا بأبيها سرحان مما اضطر زوجته ضحية لتحملها لأنها لا تستطيع الإنجاب " وكما كتمت دنيا سرها في قلبها .. كتمت أشجان اتهامها " (ص 55).
    وتميز أميمة خفاجي شخصياتها طبقا للثقافة السائدة في مجتمعها أو مجتمعنا ، فأشجان تتميز بأنوثتها ، بينما أدهم يتميز بثقافته ، وتعلن ذلك على لسان بطلتها حين تقول: رغم أننا في عمر واحد إلا أنني أشعر بكبرك عني ، ووعيك ، وأحب أن أراك هكذا دائما كبيرا شامخا ، من أين أتيت بكل هذه الجاذبية ، فثقافتك تضفي عليك قوة وتزيدك روعة فوق قوتك (ص 63) . فهل مؤلفتنا تتقمص مفهوم الرجل في مجتمعنا في نظرته للرجل والمرأة بالرغم من انتمائها إلى عالم الأنوثة من ناحية وعملها كأستاذة جامعية بل ومبدعة أم هي تقدم بطليها طبقا للمفهوم السائد وتنحي شخصيتها جانبا ؟ مع ملاحظة أن الحبكة الروائية لا تلزمها بشئ من ذلك . هذه فقرة هامة تعلن فيها أميمة خفاجي أن بطلتها تسحرها في حبيبها ثقافته أولا ، وهو يعلن لها مفاخرا " القراءة يا أشجان .. فأنا أحب القراءة جداً". (ص 63). بينما التنافس على حب – بل عقل – أشجان يتصاعد بين ضحية ودنيا مما يدفع أشجان إلى التساؤل ما الذي يجعلكما دائما على غير وفاق ، ولماذا تغار ضحية من دنيا كل هذه الغيرة ؟ (ص 69).
    لكن سعادة أشجان وأدهم بحبهما لم تدم ، وتمهد لنا أميمة خفاجي الأحداث التالية في روايتها بقولها : بقدر ما نسعد في الحياة لابد من دفع ضريبة هذه السعادة ، كأنه دين لابد من تسديده ( ص 58) . وذلك أن أشجان كبرت وكبر معها أدهم وكبر الحب بينهما، كما كبرت ملامح أشجان وأعضاؤها بحيث بدت تخجل من شكلها .
ولما كان هناك ثلاثة أنواع من الوجود : الوجود الواقعى  وهو الوجود الموجود بغض النظر عن وجود الإنسان . ثم الوجود الذهنى وهو الوجود المتوقف على وجود الإنسان ويزول بزواله. ثم الوجود الفنى وهو محصلة الصراع أو الالتحام بين الوجود الذهنى والوجود الواقعى لكنه ليس ايهما .. بل له قوانينه الخاصة به . لهذا تأخذنا أميمة خفاجي في رفق بأحداث روايتها لتتحول من المعقول إلى اللا معقول – وإن مهدت له مقدماتها الروائية – فقد أصبحت أشجان تنمو نموا غير طبيعي حتى باتت تختفي عن العيون ، وتتواري خجلا  من ضخامتها ،(ص 90) ضاقت ملابسها ، اتهموها بكثرة الأكل ، لا تستطيع الرقص في الحفلات المدرسية ولا الجري ، أصبحت بدينة لكنها احتفظت برقتها وهدوئها ووداعتها واحتفظ وجهها بنضارة الأطفال والعذارى . واضطرت أن تتجنب زميلاتها إلا أدهم حتى بلغ وزنها وحجمها قدرا هائلا . وبينما كانت تبدى مخاوفها لأدهم من سمنتها المرضية كان يطمئنها أنه سيظل يحبها في كل الأحوال " فعيناي لا تبصران سواك " (ص 95). بينما كانت تتعرض للسخرية من زميلات المدرسة ولا ينقذها منهن إلا أدهم . وهكذا أصبحت " في المدرسة سخرية وفي البيت أحزان" (ص 98).
    وإذا كان شعار الأم ضحية أنه لا يوجد شئ اسمه المستحيل ، إلا أنه اتضح لها أن الحب هو المستحيل الوحيد الذي واجهته من أشجان برغم ما أنفقته من مبالغ وتضحيات لإخراجها للحياة (ص 105) وهو ما عبرت عنه أشجان عندما تجرأت وقالت لها " علانية بل سفورا وتجاوزا ... لست أمي " (ص 105). شعرت أنه كما يوجد ما يُدعي بالحمل الكاذب ، هناك أيضا أمومة كاذبة "(ص 106).
    وكان على أشجان أن تغير ملابسها لتليق وتتلاءم وحجمها المتزايد باطراد (ص110) . وفجأة حرموا أدهم منها أو حرموها من أدهم دون سابق إنذار (ص115). وفي أشهر قليلة أصبح طولها مترين ونصف المتر ، ووزنها ما يقرب من مائتي وخمسين كيلو جراما . (ص 116) وما نلبث أن ندرك أننا أُدخلنا العالم الفانتازي للرواية حين يفزع الأم تصريح الأطباء بأن هناك خللا جينيا وراثيا في هرمون النمو ، وأن هذا الاضطراب الهرموني سيستمر حتى الموت وستتضخم الفتاة بحيث لن تعيش طويلا (ص 117).
    ثم زاد الأمور تأزما تسلم الأم مذكرة بحكم قضائي ( ما الجهة التي أثارت الموضوع ؟) لمعرفة أسباب تضخمها ووضعها تحت الحراسة والعناية المركزة بدعوى الحفاظ على سلامتها ( صفحات 117 – 118). وكانت الآن قد تضخمت تضخما فانتازيا فقد بلغ طولها أربعة أمتار ووزنها ثلاثة أطنان – أضخم من جبابرة الأساطير اليونانية ومن جليات الجبار الذي هزمه داود في التوارة ، بحيث حبسوها في ردهة واسعة . كان جناحا وارفا ترفا بالغ العناية إلا أنه كان بمثابة زنزانة " (ص 118) . وفي المقابل كان أدهم رغم أنه طليق إلا أنه يشعر أن الدنيا قبر بما وسعت لعدم وجودها معه " ( ص 119) . حبسوها كالحيوان ، والمبرر أنهم توقعوا أنها ستتوحش ويصعب السيطرة عليها . ربما لأنها أصبحت مرعبة كأنها حيوان اسطوري متوحش " وكل ما فيها تحول وتغير إلا موضوع واحد هو قلبها الذي ظل يعاني مأساة من صنع الآخرين "(ص 120). وهكذا أصبحت أشجان فرجة يتطلع إليها الآخرون بهلع وفضول ، صحفيون ومذيعون ومصورون ، يجبرونها على اللقاءات ، الجميع أتي لفحصها (ص 125) بينما قلب أدهم يتفطر تمزقا وهم يطلقون عليها لقب " البنت المتوحشة "، فأهمل دراسته ورفض الطعام، وأمه تحاول عبثا ن تخفف عنه قائلة : يا ابنى هذا أمر الله .. يجب ألا نفقدكما في وقت واحد(ص125). فتكون إجابته : نحن روح واحدة في جسدين (ص 126). وقد أفزعه منظرها عندما شاهدها في التليفزيون وهم يلقبونها " بالطفلة المستحيلة تتحول إلى كائن متوحش من الصعب ترويضه " (ص 128) ولا تذكر لنا المؤلفة مبررا يقنعنا لوضع بطلتها في زنزانة بلا نافذة تطل منها على الحياة ، ولا تليفزيون ولا راديو ولا صحف ولا كتب ولا شجر ، لعل المجرم المحكوم عليه بالإعدام لا يعامل بمثل هذه المعاملة . وهي نفسها ما تلبث أن تتساءل : على أي ذنب تعاقب ( ص 128) . مما أدي إلى امتناعها عن الطعام والكلام ومقابلة أي شخص وهي أعراض الاكتئاب . وكان أكثر ما يقلقها أن يتحول الحب الكبير الذي يحمله كل من أدهم ودنيا إلى شفقه وحزن وعذاب " (ص 132) لهذا أضربت عن الطعام مما اضطر إدارة المستشفي إلى إجبارها على الطعام بالمحاليل بعد تخديرها . وهكذا – حتى الرفض والامتناع لم يصبحا من حقها – بذلك أصبحت كأنها فأر تجارب في أيدي الباحثين " كل ذلك من أجل الحفاظ على حياة أكبر حيوان معملي عرفه العالم حتى الآن " ( ص 133) فحالتها لا تشغل مصر وحدها ، بل تشغل العالم كله وترهبه. لكن القارئ يتساءل هل هذا كان حفاظا عليها أم فقدانا لها. فلأول مرة في حياتها تشعر بالكراهية ، كانت تظن أن قلبها ليس فيه مكان لكراهية شئ.
    أما أدهم فكان قد استحال إلى شبح متحرك من شدة قلقه وحزنه عليها عندما زارها، كان صغير الحجم جدا أمامها فلم يتعد ركبتها ، مما ذكرنا بقصة جاليفر في أرض العمالقة . " لم يرها كائنا ضخما متوحشا كما صورها البعض بل رأي حبيبته بعد طول غياب " (ص 143) بينما هي تقول له : أنا الطفلة العجيبة المستحيلة . (ص 149) .
    وتنتهز أميمة خفاجي الفرصة من خلال عملها الروائي لتشرح إحدى الحقائق العلمية فتوضح أن دموع التماسيح ليست بكاء بل ما هي إلا طرد الكميات الهائلة من الماء والأملاح الزائدة والضارة بها المبتلعة مع فرائسها والتي لا مخرج لها إلا الغدد الدمعية (ص 151) .
    وكانت قد سبق أن شرحت حقيقة " لبن العصفور" الذي يختلف عن لبن الحيوانات الثديية لأنه ليس سائلا بل على هيئة فتات أبيض هش سريع التكسر أشبه ما يكون بفتات الجبن الأبيض تفرزه حويصلة الأنثي والذكر على السواء . لذلك يشتركان معا في إطعام أفراخهما ( ص 59).
    ويسأل القارئ المؤلفة لماذا منعت تعليمات المستشفي الصارمة والمشددة زيارة الأهل إلا بتصريح خاص من الإدارة ، بينما تسمح بزيارتها للغرباء كالمصورين والمذيعين ؟ مما دعا أدهم إلى التحايل بشتي الأساليب حتى ينجح في زيارتها معلنا " أنا أحببتك كما أنت .. كما يجب أن تكوني أو يفترض أن تكوني " (ص 155) فتعلن أنها أضخم فأر تجارب في العالم ( ص 157) ثم تسأله : هل أنا متوحشة .. ألا تخاف مني ؟ ( ص 158) " أفلت من ظلمة الرحم ، لكن من ينقذني من ظلمة الحياة الآن " (ص 160) إني سجينة يا أدهم ، فيجيبها : أنا مثلك سجين ( ص 161) . وهكذا كان أدهم كلما دخل سجنها يسترد حريته ( ص 165). فرؤيتها – ولو كانت بين القضبان – حريته ، لكنها رغم مقابلتها أدهم ودنيا إلا أنها ظلت ترفض الطعام والكلام لأنها لا تتوقع العلاج والشفاء.  لهذا كان القرد كوكي هو الكائن الوحيد الفرح بلقائها لعدم إدراكه ما هي فيه من محنة ، مكملا بذلك الصورة من زاوية تختلف عن محبيها وسجانيها وممرضيها ومن يأتون لمشاهدتها من باب الفضول أو انجازا لمهامهم الإعلامية .
    ومن دنيا علمت أشجان أنها طفلة مستنسخة من يويضة مخصبة من مادة وراثية لطفلة ولدتها ضحية ثم ماتت في عمر السنوات الثلاث ، وأن دنيا هي التي حملت البويضة . بهذا حلت أشجان شفرة حياتها ولغز مرضها وسر أمها وغموضها . أما ضحية فقد انقلبت سعادتها بطفلتها إلى مأساة ، وليتها وحدها التي تعاني لكن يعاني معها كل من في البيت ، وتعاني طفلتها الوليدة في ريعان شبابها ( صفحات 183 – 184). وللمرة الثانية تحرم من ابنتها : الأولى حين ماتت ، والثانية حية بعلة مستعصية وما عليها إلا انتظار الميتة الثانية (ص 184).
    وكانت أشجان هي التي رفضت مقابلتها فهي السبب الوحيد لمأساتها . وكأنما بتحريض من المؤلفة نجد أشجان تعاني هذه المفارقة : تحقيقا لرغبة ضحية الحمقاء في الأمومة أودت بحياتها . كأنما كانت تتنبأ بما ستتطور إليه أشجان . إن أميمة خفاجي تحرض بطلتها أشجان ضد أمها وتدين رغبة ضحية المشروعة في الأمومة ، واثقين أن ما تطورت إليه أشجان تطورا شاذا ما كان ليخطر بتوقعات أمها ، وأن مؤلفتنا أميمة خفاجي هي التي دفعت أحداثها الروائية نحو تلك التطورات الفانتازية غير المتوقعة لكي تسفر عن رأيها في إدانة عمليات الاستنساخ البشري ، موجهة رأس اتهاماتها إلى الطبيب انتينوري الذي ابتدعته ليقوم بهذه العمليات " وصدر الحكم بمحاكمته لاستمراره في إجراء تجاربه العلمية على البشر " (186). لكن المؤلفة أميمة ما تلبث أن تتعاطف لحظات مع بطلتها ضحية – لاحظ الاسم الذي اختارته لها – فتتساءل لماذا تُقتل عمداً هذه الأم ضحية " كل هذه المرات ، وكأن عذاب البشر كله قد جُمع ليصب في نهرها دون سائر الخلق". (ص190) وهكذا بعد أن سمعنا هذا الكم الهائل من الإدانات لها تعود مؤلفتنا فتتعاطف معها وتقدم لنا لحظات معاناتها المريرة حين ماتت طفلتها ذات السنوات الثلاث ثم وهم يدفنونها " حتى كادت تفقد بصرها كأم عليها "(ص 185) فلا عجب أن لجأت إلى ذلك الطبيب الإيطالي " أبي الأطفال المستحيلين " . وإذا كانت هناك سيدة في الستين من عمرها أمكنها – على يديه - إنجاب طفل بعد زراعته بويضة في رحمها ، فإنها ما تزال في الثانية والخمسين . ولئن كانت زراعة البويضة في رحمها قد فشلت  فقد أمكن استنساخ طفلة بنزع خلايا من جثة طفلتها المتوفاة وإعداد المادة الوراثية منها وزرعها في إحدى البويضات المجمدة بعد تفريغها وتوفير الأنثي البديلة لحمل البويضة بعد إجراء جميع التحاليل والفحوص والاتفاق معها . اسمها دنيا ، عمرها خمسة وعشرون عاما ، شقراء ، غير متزوجة ، ستظل حبيسة المستشفي وتحت الرعاية المركزة طوال التسعة أشهر .
    وعادت ضحية وزوجها إلى القاهرة لتخابر الطبيب يوميا لتطمئن على حالة الحمل وأخبار الجنين ، ولم تفكر يوما في السؤال عن دنيا وكأنها حضانة صناعية. ( ص 231) غير أن ثمة علاقة عاطفية كانت تنمو بين الجنين وهذه الحضانة بحيث كلما خلت إلى نفسها كانت تحدِّث طفلتها الراقدة فيها وتلاطفها كأنها تسمعها ( ص 233) حتى تمنت لو استطاعت أن تطيل فترة الحمل وتؤخر الولادة . وهكذا نشأت تلك العلاقة العاطفية بين دنيا وذلك الجنين المقبل على الحياة ، حتى ليتردد في داخلها ذلك الصراع بين إدراكها أنها مجرد حاملة للمادة الوراثية ، مجرد وعاء مكيف مؤقت ، حضانة . فتعترض محتجة: مستحيل أنا حاضنة ولست حضانة ، أنا أم ( ص 236).
    وعندما يتدخل الطبيب انتينوري معلنا لضحية أنها لا صاحبة البويضة ولا صاحبة المادة الوراثية (ص 244) تحتج قائلة : ألست سببا في هذه المادة الوراثية التي تشكلت منها الطفلة ؟ (ص 244) تقصد المنتزعة من ابنتها المتوفاه . المهم أنه ينحاز إلى دنيا عندما يقرر أنها أيضا ليست صاحبة هذا ولا ذاك ، لكنها حملت الجنين تسعة أشهر في رحمها .. هنا تعترض ضحية قائلة : لا تقل إنها أمها ..أنا أمها. ( ص 245) ويكمل القارئ على لسانها ما لم تذكره المؤلفة : وأنا التي دفعت نفقات العملية كلها فبأية صفة فعلت ذلك . ويحتاج القارئ إلى شرح حين يؤكد الطبيب أن المادة الوراثية ليست لأحدكما وإنما غريبة عنكما (ص 247) مع أنها مستنسخة من طفلة ضحية المتوفاة . لهذا عند رفع الأمر للقضاء حكم بأن الطفلة ابنة ضحية ومنح السيدة البديلة حق رعايتها وإرضاعها في حالة موافقة الأم فقط. (ص 51) ولأننا في مجال الفانتازيا فإن الوليدة هي التي تحسم الموقف ، لأنها لم تستجب لأية مرضعة تم فحصها وإجراء التحاليل عليها . وخشية من موت الطفلة لم يكن هناك مفر من اللجوء إلى دنيا مما جعلها تقفز فرحا وتعلن تحويل رصيدها إلى القاهرة وتصفية كل ممتلكاتها ماعدا بيت صغير ، واتجهت إلى الفندق وهي تحمل معها القرد الشقي الصغير كوكي ( ص 254) . وبسرعة هدأت الطفلة وكفت عن البكاء .
    وفي القاهرة كان ثمة معركة مستمرة بين الوالدتين : ضحية ودنيا ، بينما كان أبوها سرحان ملطفا دائما لجو البيت ( ص 264).
    ونعود من حيث بدأت روايتنا حين تتضخم أشجان نتيجة الآثار الجانبية لتتحول قصتها إلى إدانة روائية لفكرة الاستنساخ البشري. " وعُقدت المؤتمرات وكثرت الندوات والمناقشات ونُشرت الأبحاث التي يملؤها الرعب والحيرة من تلك الحالة التي ليس لها مثيل أو شبيه على وجه الأرض " (ص 279).
    وعندما نقرأ أنه ثبت من الخريطة الوراثية لمن أطلقوا عليها الطفلة المستحيلة أنها ليست مستنسخة من الأم المسجلة بشهادة ميلادها ، فإن القارئ يتساءل لكن أليست الابنة المتوفاة حلقة وصل بينهما ، كما يتشكك القارئ في صحة وصف امرأة بمحاولة الحصول على طفل لتحقيق أمومتها بأنه أنانية وتحد للقدر ،وهل التقدم العلمي في مختلف مجالات الحياة – ومن بينها علم الأحياء – تحديا للأقدار ، حتى لتتساءل أشجان في رسالتها التي كتبتها كيف طاوع أمها ضحية كل هؤلاء بدءا بالزوج ودنيا نهاية بحارس القبور الذي أخرج جثة أختها المتوفاة والطبيب أنتينوري الذي نزع عدة عينات وقطع دقيقة من عظام الطفلة وبقايا أعضائها المختلفة ( ص 221).
    كانت رسالة طويلة ، لم تكن رسالة حب أو نداء أو حتى شكوى ، لكنها كانت رسالة حياة كُتب عليها العدم ، لم تر فيها صاحبتها سوى المعاناة ( ص 296). لكن وسط هذه الظلمة كان هناك بصيص الحب " حب أدهم الشئ الوحيد في حياتها الذي لا شك فيه". (ص 297) وقد تمكن أدهم من تهريبها بمساعدة الحارس مقابل رشوته " خرج أدهم تحمله أشجان على كتفها وقد بدا وكأنه طفلها الصغير ، لكنه كان كبيرا شامخا". (ص 298) وما لبثت أن أُعلنت حالة الطوارئ عندما تبين هروب أشجان . وأثناء هروبها أطلقوا الرصاص عليها بينما يدور حوار متخيل بينها وبين أدهم وهو غير مصدق أنها رحلت .
    وتختتم أميمة خفاجي روايتها حين نزل خدام المدافن ومعهم أدهم ليرقدوها في الغرفة المظلمة ثم صعدوا إلى أعلي وانتظروا صعود أدهم ، لكن أدهم لم يصعد لأنه كان قد رقد بجوارها ولف ذراعيها حوله وكأنها هي التي تحيطه وأغمض عينيه مثلها تماما وهدأ . وعندما انتزعوه عنوة وأغلقوا المقبرة راح يهذي بها في كل مكان . نهاية تقترب  من نهاية روميو وجوليت  إيغالاً فى الرومانسية.
                
                                                                                                   يوسف الشاروني
   
   
         

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق